دراسة الأسلوب في رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ
تحتل رواية اللص والكلاب موقعا
متميزا في الرواية العربية، وفي روايات نجيب محفوظ. لقد وفر لها كل مستلزمات
الرواية المتقنة الصنعة. إذ جعلها مركزة على بطل محوري نفذ إلى أعماقه النفسية،
وحاول من خلاله تجسيد الصراع بين القيم والأفكار داخل المجتمع. كما قدم لنا صورة
عن المجتمع من خلال إشارات دقيقة مركزة ولكنها عميقة.
وبالتالي سنحاول استكمال تحليلها بالحديث عن ما يميز أسلوب نجيب محفوظ في روايته هذه:
1.
اللغــــــــــــــة:
إن مما يميز اللغة في رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ هو وفاؤه للغة
العربية الفصحى، وإبداعه في الاشتغال عليها خاصة من خلال إنطاقه شخصيات فاقدة
للقدرة اللغوية بهذه اللغة العربية الفصحى.ولغته في هذه الرواية - ككل رواياته-
لغة شفافة واضحة لا تكلّف فيها، يحرص على جعلها معبّرة من خلال إيحاءاتها الخاصة،
كما أنه يحرص على إعطاء كل شخصية من شخصياته ما يناسبها من لغة حسب ثقافتها
وموقعها الاجتماعي. وهذه الخاصية لا تتوفر للعديد من الكتاب الذين يوظفون لغة
واحدة ويعممونها على النص بأكمله.
وبالتالي فلغة اللص والكلاب
تتعدد سجلاتها بتعدد الشخصيات ومن بين أهم هذه السجلات :
أ-
لغة
سعيد مهران:
إنها لغة قاسية
وعنيفة وساخرة وذات حمولة تتصل بماضيه كلص محترف ورجل له مكانة وشخصية قوية. يبدو
لنا ذلك في كثرة سبابه الجارح وهو يصف أعداءه رابطا إياها بعالم الحيوان (الرمزية
الحيوانية)، أو في تعريضه وسخريته المبطنة التي أزعجت علوان أو في أحاديثه مع نور.
إنها لغة الشطار والمعلمين وكبار اللصوص المحترفين. ونجد جزءا من هذه اللغة عند
عليش ورجاله ولمعلم بياظة، وطرزان وإن كانت أقلّ عنفا من لغة مهران.
ب-
اللغة الصوفية:
يبدو لنا هذا السجل خاصة مع
الشيخ الجنيدي. إنها لغة ذات مسحة دينية، تتناص مع القرآن الكريم، ويغلب عليها
الإيحاء الذي يسلب عنها بعدها الدنيوي ويمنحها شحنة دينية أخروية خالصة. هي لغة
محملة بمعاني رمزية لا يفهما إلا الخواص أو أصحاب المقامات الصوفية. لذلك كانت لغة
صعبة ومستعصية على سعيد . يقول السارد :
" الصبر مقدس تقدس به الأشياء .../ متى تظفر بسكون القلب تحت جريان الحكم
.../ التوكل ترك الإيواء إلا الله ... " ( ص 119).
ت- اللغة الشعبية: إلى جانب اللغة الفصحى المهيمنة
على النص فقد استعمل الروائي اللغة العامية والدارجة، ولكن باقتصاد كبير، وهذا ما
يزيد الرواية تألقا أدبيا. هذه اللغة على لسان نور، وطرزان وسعيد مهران، التي
تنتمي إلى القاع الشعبي المصري ( البخت والقسمة فين / حزر فزر ) ص22.
ج- اللغة القانونية: ويمكن التمثيل لها بلغة علوان الذي كان يحاجّ مهران بالقانون، أو في نداء البوليس وهم يطلبون من مهران الاستسلام ليقدّم للعدالة.
2.الوصــــــــف:
يعتبر الوصف إحدى
التقنيات الأساسية في النص السردي، وقد كان للوصف دور مركزي في رواية "اللص
والكلاب" فقد استعان الكاتب بالوصف أثناء تقديم الشخصيات والأمكنة والأشياء
والوسائل وتحيين المشاهد الدرامية، خاصة في وصف شخصية البطل سعيد ونفسيته ومشاهده
الإجرامية .
3.الحــــــوار:
وظف نجيب محفوظ في روايته عدة أساليب سردية لنقل الأحداث والتعبير عن مواقف الشخصيات ولقد كان الحوار حاضرا بقوة في كثير من محطات الرواية وأحداثها المثيرة. ليشكل بذلك لغة تواصلية إلى جانب السرد للتناوب على تقديم الوقائع وإجلاء المواقف والحقائق من زوايا مختلفة. وعلى هذا الأساس ندرس هذه التقنية السردية كما هو معهود في شكلين حواريين:
·
الحوار الخارجي:
اعتمد الكاتب هذا الحوار منذ
الفصل الأول (بين سعيد وعليش والمخبر وسناء) حتى الفصل الأخير. نشأ هذا الحوار بين سعيد مهران وبقية الشخصيات
باستثناء نبوية وغاب بين بعضها البعض .كما دار بين شبان سمعهم سعيد وهو في مقهى
طرزان يتحاورون حول الوضع المأساوي في المجتمع. والأمثلة غير معوزة في هذا الحوار.
ووظيفة هذا الحوار الخارجي
تتمثل في:
انتقال الأحداث والسير بها نحو
تسلسلها السردي من وضعية التمهيد إلى وضعية العقدة والتأزم ثم وضعية النهاية.
معايشة الأحداث السردية مع الشخصية
وتقاسم تحولاتها وتقلباتها السريعة الإيقاع.
إبراز الطبائع الحقيقية للشخصيات الموظفة: فأغلبها يتسم بالمهادنة والنفاق الاجتماعي بين سعيد وبين من يمثلون الخيانة وحتى المجتمع. كما أن الشخصيات الأخرى التي فيها حوارات سعيد مع من يمثلون قيمة الوفاء (طرزان / نور ) فقد اكتست طابع التقدير وجلب المنفعة، في حين كشف الحوار مع الشيخ الجنيدي عن حاجز إيماني وغياب التواصل.
·
الحوار الداخلي (المونولوج) :
من أجل التوصيف الدقيق والتصوير
الملم بمعرفة الشخصيات السردية التجأ السارد إلى الحوار الداخلي للكشف عن تناقضها
ومواقفها الإيديولوجية. وقد طبق هذا الأداة بشكل أساسي على شخصية البطل إلى حد
يطغى فيه هذا البعد كل الأبعاد الأخرى . ويمكن أن نستكشف هذا الشكل من الحوار في
الرواية كما يلي :
·
استرجاع الذكريات الماضية : " لكن من أي مدد يستمد رؤوف وحيه ؟ .. أفكار
لذيذة حقا ولكن أين رؤوف علوان ؟ بيت الطلبة وتلك الأيام العجيبة الماضية . الحماس
الباهر الممثل في صورة طالب ريفي رث الثياب كبير القلب ..." ( ص 26) .
·
الكشف عن التوتر والصراع الداخلي: " ولكن من يبقى لسناء ؟
الشوكة المنغرزة في قلبي. أنت تندفع بأعصابك بلا عقل. عليك أن تنتظر طويلا وتدبر
أمرك ثم تنقض كالحدأة الآن لا فائدة من الانتظار. أنت مطار ...." ( ص 58) .
· تخيل مواجهة الخصوم : " أنسيت يا عليش كيف كنت تتمسح في ساقي كالكلب ؟" . " ترى كيف أنت اليوم يا رؤوف ؟هل تغير مثلك يا نبوية ؟هل ينكرني مثلك يا سناء ؟ " .
·
تقديم سيرته الذاتية
بضمير المتكلم: " ها هو أبي يسمع ويهز رأسه
طربا .ويرمقني باسما كأنما يقول لي اسمع وتعلم .وانأ سعيد وأود غفلة لأتسلق النخلة
أو ارمي طوبة لأسقط بلحة ..ومع العودة ذات مساء إلى بيت الطلبة بالجيزة رأيتها
مقبلة تحمل سلة .جميلة وجذابة طاوية هيكلها على جميع ما قدر لي من هناء الجنة
وعذاب الجحيم " ( ص 25) .
·
الكشف عن ذات منفصمة : أحيانا يحكمها العقل وأحيانا
أخرى الانفعال والتهور : " اقطع لسانك قبل أن يخونك ويعترف .أنت تود أن تعترف
له بكل شيء ولعله ليس في حاجة إلى ذلك .لعله رآك وأنت تطلق النار لعله يرى أكثر من
ذلك" ( ص 65).
· ذات غاضبة ناقمة على الخونة والمجتمع: هنا اختلط كلام السارد بكلام الشخصية وهو كثير بين ثنايا الرواية:” آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها الشائهة. نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسما واحدا؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديما ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر، ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر. وسناء إذا خطرت في النفس انجاب عنها الحر والغبار والبغضاء والكدر. ماذا تعرف الصغيرة عن أبيها ؟ لا شيء ".