شُغْلَانَة....
كان عبده في حاجة إلى قرشين ...ولم تكن هذه أول مرة يحتاج فيها عبده، فقد أمضى عمره باحثا عن القرشين..
و كانت له زوجة يسكن و إياها حجرة و حولهما الجيران. و رغم المعارك الصغيرة التي تنشب بين نسائهم و امرأته ، فقد كانوا على العموم أناس طيبون،وكان عبده في حاجة إلى قرشين،وهذه المرة كانت حاجته قد طالت، و لم يكن هناك أمل في نهايتها، و معارفه القدامى حفيت قدمه وهو يلف عليهم ويدور، و يعود من لفه ودورانه بنفس وجهه المقطب العابس و يديه الخاويتين ويدق الباب فتفتح امرأته فلا يحيها، و لا تحييه و ينام على الحصيرة ، ويسد أذنيه عن لغط نفيسة وحديثها وهي تجره جرا إلى الذي يحدث كل يوم، و إلى تهديد صاحب البيت، وأنصاف الأرغفة الحاف و أرباعها التي يتصدق بها الجيران، و العيد القادم، وفاكهة الخوخ التي نفسها فيها وتتوحم عليها، وابنته التي ماتت، و ابنه الذي في الطريق و الخوخة التي سيولد بها.
وفي يوم وعبده عائد قالت له نفيسة أن شخصا قد أرسل له.
وأحس عبده بفرحة فإن أي سؤال في مثل حاله يعني الأمل، وليكن كاذبا إلا أنه أحسن من لا شيء على أية حال .
وفي التو ذهب إليه، و كان يعمل تمورجيا في المستشفى، رحب به، وابتسم عبده لترحيبه في خجل. وما كاد يسأل عن الحال حتى قص عبده الحكاية ، وكان عبده يشعر بالراحة وهو يقصها و يتحدث عن الأيام مجده و ذكرياته، وهو يستمع ثم أخبره في النهاية بأن هناك عملا ينتظره.
ورجع عبده وكأن ليلة القدر قد فتحت له.وحدث نفيسة كثيرا عن التمورجي وترحبيه وطيبته.
ومن الفجر كان مستيقظا، وقبل شروق الشمس كان هو وطلبه أمام قسم نقل الدم في المستشفى وانتظر .. وجاء أناس مثله وانتظروا، وفتح الباب في العاشرة .. ودخلوا .. وأخذ عبده بالمكان الذي كله سكون وصمت.. و أوقفوهم طابورا وسألوه هو كالذاهل واستجوبوه وعرفوا اسم أمه وأبيه، وكيف مات خاله وعمه، وطالبوه بصورة وبحث عنده فلم يجد إلا صورته الملصقة على تحقيق الشخصية الذي يحمله دائما خوفا من الطوارئ والعساكر.
ودفعوا إبرة في وريده، وأخذوا منه ملء زجاجة من الدم الأحمر، وقالوا له : بعد أسبوع.
وخلال الأسبوع كان عبده لا يزال في حاجة إلى القرشين، ولا يزال غاديا رائحا يبحث، وأنصاف الأرغفة وأرباعها كادت تفرغ، بل فرغت وفي يده الميعاد تماما كان أمام القسم. وفي العاشرة فتح الباب وقالوا للذي قبله في الطابور ..لا..
وحين تصلب الرجل في مكانه أزاحوه وهم يقولون : دمك فاسد..وخفق قلب عبده..ولكنه كف عن الخفقان حين قالوا له : أيوه..ولما تثاقل في مكانه أزاحوه وهم يقولون : حناخذ منك... النهاردة..
وكاد عبده يركب رأسه ويمضي في الطابور مهللا مقهقها كما كان يفعل في عز شبابه، ولكنه كان خائفا ففرح على مضض وانتظر..
وبعد قليل نادوا عليه، وأدخلوا ذراعه في ثقب لا يسع إلا ذراعه. وخاف عبده ولكنه اطمأن حين وجد على يمينه واحد وعلى شماله آخر وأحس بذراعه كلها يغمرها شيء بارد وكأنها وضعت في لوح من الثلج واندست فيها بعد برهة مسلة وتأوه، ثم لم يعد شيء يصيبه فسكت، وأتاح له سكوته أن يتفرج على المكان، وليس لهن صب امرأته ولا ثوبها الأسود، وأدرك عبده بعد برهة أنهم ليسوا كلهم فتيات، وإنما بينهن بعض الرجال ولكن وجوههم هي الأخرى كانت بيضاء كالقطن المندوف ولامعة كالحرير وراح عبده يحسد ذراعه والرجال الذين في الداخل ويتمنى أن تطول حتى تصل أصابعه إلى قناع واحدة من الفتيات فيشده، ويقرض وجهها الحلو.
وشعر بذراعه تبرد ثم شعر بها تسخن وتبرد..وسأل الذي عن يمينه : هم حياخذوا قد إيه..وأجاب الآخر وهو يغمغم وكأنما ينوي ليتوضأ : أنا عارف ..بيقولوا نص لتر...وانتهى الحديث..ودقوا على ذراعه وهم يقولون : خلاص..ومشى عبده وهو غير ثابت وسأل عن القرشين .. وقالوا له انتظر..وانتظر..ودفعوا له جنيها وفوقه ثلاثون قرشا .. وكراما فأفطروه..وقبل أن يرجع إلى البيت مر على الجزار فأخذ رطل اللحمة، وفات على الخضري فاشترى البطاطس ودق باب الحجرة وهو يبتسم..وحين فتحت نفيسة ووجدته محملا ردت تحيته، وحملت عنه ما في يده وقد انتابها خفة، وكادت ـ لولا الحياء ـ تقول إنها تحبه وتموت فيه.وطبخت نفيسة، وشاعت رائحة الطعام في الحجرة وتسربت إلى أرجاء البيت، وشمشم الجيران، وابتسم بعضهم وتحسر أخرون وهم واجمون.وأكل عبد اللطيف حتى ملأ بطنه، ثم تهور واشترى بطيخه..وفي الليل لم يسمع لامرأته زعيق، وإنما دار بينهم همس كحديث الحبايب..
وانتهى الأسبوع، وقبل أن ينتهي كان عبده قد صرف كل ما أخذ..
وفي الميعاد ذهب إلى المستشفى ومد ذراعه، وأخذوا منه ما أخذوا، وأعطوه، ولم ينسوا فأطعموه. وارتاح عبده إلى العمل الجديد فليس عليه إلا أن يذهب كل أسبوع إلى هذا المكان النظيف الذي كله أبيض في أبيض، ويعطيهم نصف لتر من دمه،
ويناولونه الثمن، وتدبر امرأته عيشهم بما يأخذه، ويكون جسده قد دبر الدم، حتى إذا ما انتهى الأسبوع يعود ليعطيهم الدم ويناولونه النقود.
وكانت حال امرأته معه على كف عفريت، فحين يقبل وفي يده ما في يده تبسم له وتكاد تزغرد، وحين ينام طيلة الأسبوع لا تدعه ينام وإنما تحدثه عن رجليه الرفيعتين، ووجهه الذي يصفر...
وكان عبده يلمس هذا، ويشعر بالمرارة وهو يلمسه، ولكن ماذا يهم..
صحيح إنه كلما أخذوا منه الدم يدوخ وينام بجوار حائط المستشفى حتى العصر.
وصحيح أن الناس تتكلم، وكلام الناس كثير، ولكن المهم أن إيجاره مدفوع، والذي لا يعجبه هذا فليشرب من أوسع بحر.
غير أن عبده ذهب يوما إلى المستشفى، ولم يجلسوه أمام الثقب وإنما نادوا عليه وقالوا له..لا
- ليه ؟..
- .. أنيميا..
-.. أنمية أيه ؟..
-.. فقر الدم ..
- وبعدين؟..
- هبوط في القلب....تموت..
-..أنا راضي..
-.. صحتك..الإنسانية..
- ودي إنسانية يا جدعان؟ ! ..
- مش ممكن..
- يعني مافيش فايده؟..
-..ولا عايده..
وهذا اليوم نسوا فلم يطعموه..
ومن جديد أصبح عبده في حاجة الى قرش....
يوسف إدريس،أرخص ليالي/الأعمال الكاملة،المجلد الثاني